وتلك الخرافات والأكاذيب التي كانت تروج لها المدرسة الاستعمارية قد تفطن لها عباس فرحات في مراحل متأخرة من حياته فها هو يقول في كتابه الشباب الجزائري : " إنني أقوم بالعودة إلى الوراء أيضا لأن الفرنسيين وبالخصوص أولئك الذين كانوا في الجزائر ما زالوا يعيشون وراء ستار من دخان الحقائق المقلوبة ... لقد كنا نحن ضحايا أسطورة وكانوا هم من جهتهم ضحايا خداع طويل " وستار الدخان والحقائق المقلوبة والأسطورة يقصد بها عباس فرحات كل تلك الزيوف السابق ذكرها والتي روجت لها المدرسة الاستعمارية والمذكورة أعلاه أما كيف تمت عملية الخداع له ولزملائه من الشباب الجزائري فنجده في قوله : " لقد علموهم طوال ما يزيد عن قرن أن الجزائر الولاية الفرنسية ليست إلا امتداد للمضلع السداسي الفرنسي وعندما دقت ساعة الحقيقية ... شعروا أنهم ضحايا خيانة وحينئذ راحوا يقاتلون بشدة من أجل أن يستمر هذا الخيال المضلل ... " وعباس فرحات نفسه قد كان ضحية لتلك الخيانة ولتك الأسطورة والتي غرسوها في عقله الباطن وأصبحت تبدو جزءا من الحقيقة وهذا لفترة طويلة من الزمن غرسوها بقوة الحديد والنار وماذا يفعل صبي لا يمتلك أي نوع من الحصانة المعرفية ضد هذا الفكر المضلل . إن كثافة ذلك الستار من الدخان هو من حجب عن عقل عباس فرحات الصغير الحقيقة والنضال الجزائري المستميت والشجاع والأسطوري والذي توج بثورة نوفمبر المباركة هو من سوف يبدد خيوط ستار الدخان ذاك .
وعباس فرحات كان يعيش مشتتا بين عالمين عالم أصوله وجذوره وشعبه ومجتمعه الذي أصبح حطاما وذكريات غابرة وبين عالم فرنسي واقع ومهين يختطف القلوب قبل الأبصار فرنسا فيه هي شعلة الحضارة ومركزها بالنسبة له ولو إلى حين أي إلى سنة 1942 تاريخ الإنزال الإنجلو أمريكي وما يؤكد على تبعثره بين عالمين هو زواجه الثاني من فرنسية أي أن الرجل ومن خلال زوجته يكون قد ارتبط بالعالم الفرنسي الذي يريده ويدافع عنه للأسباب السابقة الذكر وفي نفس الوقت بقي متعلقا بشعبه وهذا من خلال الدفاع عنه وعن هويته وحقوقه وهذا ما نجده في اعترافاته المتعددة والتي لا يمكن الاستشهاد بها كلها في هذا المقال نظرا لغزارتها فهو يقول بأن : " ثقافتنا لم تفصلنا عن شعبنا بل بقي فكرنا دائما عالقا لاصقا بأولئك الذين بقوا وراء القافلة " من كتابه ليل الاستعمار كما يقول في نفس المرجع : " إنني أنتمي إلى طبقة فلاحية ، وأن منصب والدي وإخوتي كان عرضيا ، عشت وتربيت في أوساط الفلاحين الجبليين قضيت طفولتي في وسط هؤلاء البسطاء ، أقوياء وكرماء ، فمن الصعوبة أن أتخلى عنهم " وقضية هؤلاء هي من أدخلته في المعترك السياسي فهو يقول : " إن مأساة بلادي هي التي أدخلتني في وحل السياسية ، لو أن فرنسا وجدت حلا معتدلا لمشاكلنا ، لكنت من المحتمل أن أقوم بالعمل الفلاحي ، ولكن كيف نستطيع أن نعيش واليأس واللاعدل أصبحا مشهدا يوميا في بلدي " والهدف من نضاله واضح وهو يتمثل في " ترقية هؤلاء الفلاحين فهو الهدف الأسمى لكل سياسية محترمة حلمي الوحيـد كان أن أرى الفلاح ينام في سريره بعد أن يأكل جيدا ويقرأ جريدته " . ولذا فالرجل يتمتع بحس أخلاقي نبيل يشكر عليه ويضعه في موضع تقدير واحترام مهما اختلفنا أو اتفقنا مع أفكاره .
ومن بعد أن تعرفنا على الخلفية التاريخية والفكرية والتي شكلت الرجل فإننا وفي هذا الجزء من مقالنا هذا سنحاول التطرق إلى الأدوات التي اتخذها فرحات عباس كوسيلة لنّضال ضد النظام الاستعماري من جهة ولتجسيد مشاريعه على أرض الواقع من جهة أخرى .
إن عباس فرحات وكما يخبرنا المؤرخ محمد العربي الزبيري في كتابه تاريخ الجزائر المعاصر الجزء الأول قد كان رجلا واقعيا وينطلق من الواقع ولذلك فهو يعرف جيدا بأن الرأي العام الفرنسي غير مهيئ لتقبل فكرة العمل المسلح ضد فرنسا ولذلك فقد اتجه صوب أسلوب مهادن للاستعمار في نضاله يعتمد على ضرورة تحقيق المساواة التامة بين جميع سكان الجزائر وعلى التربية والتعليم للجزائريين مع الأخذ بالتكنولوجيا الحديثة من قبلهم وللتوسع أكثر في هذه النقطة راجع محمد العربي الزبيري المرجع المذكور أعلاه ج 1 ص 107 وهو يعلم أيضا أنه وفي فترة العشرينات والثلاثنات من القرن الماضي لم يكن المجتمع الفرنسي مهيئا ومستعدا لقبول فكرة استقلال الجزائر وتصفية الإمبراطورية الفرنسية وعليه فما العمل في مثل هذه الظروف هل نترك الشعب يعاني في ثالوثه الرهيب أم نسير في الطريق الوحيد والممكن أذاك والمتمثل في التعايش مع النظام الاستعماري المرفوض ولو إلى حين . ولأجل ما سبق نراه يطالب بالمساواة التامة بين الجزائريين والفرنسيين مع ضرورة إلغاء جميع القوانين الاستثنائية كقانون الأهالي والمحاكم الرادعة والمساواة في الضرائب . والرجل قد ناضل لأجل تعليم الجزائريين إيمانا منه بأن التعليم سيجعل الضعفاء أو أولئك الذين تخلفوا عن القافلة على حد تعبيره يلتحقون بها لكون التعليم سيجعلهم ينهضون بوضعهم الاجتماعي والاقتصادي وهذا النهوض سيفرض على الكولون احترام الجزائريين أو الأهالي كما يسمونهم لأن الجار لن يعامل جاره باحترام ما لم يفرض عليه هذا الأخير احترامه وهذا الكلام نقتبسه من كتابه الشباب الجزائري .
كما أن الرجل قد ناضل بقوة وبشراسة لصالح سياسة الإدماج وهذا في بداية مشواره السياسي وفكرة الإدماج هذه ليست فكرة مبتكرة من عباس فرحات وإنما يمكن تتبع أصولها في برامج أوائل الغزاة وعلى رأسهم الدوق دي روفيقو Général Savary, Duc de Rovigoوالذي صرح في العام 1832 من : " أن هدفنا هو أن تحل الفرنسية محل العربية بنشرها بين الأهالي عن طريق السلطة والإدارة " ثم ها هو الماريشال بيجو والذي قال في 1840 : " بعد أن أخضعنا العرب يجب علينا نشر حضارتنا وقوانيننا في الأوساط الأهلي البربري " . ولكن الفرنسيين والذين أتوا من بعدهم لم يكونوا لا راغبين في هذه السياسة ولا هم قد كانوا متحمسين لها بل ناصبوها ومن البداية العداء وحاربوها بكل ما امتلكوا من قوة وأدوات لكونهم كانوا يخافون من مزاحمة الجزائريين لهم على خيرات البلاد ومن منافستهم لهم في حكمها .
وفكرة الإدماج الجماعي للجزائريين في فرنسا والتي طالب بها فرحات عباس قد كانت وعلى الدوام أحد أبرز مطالب برنامجه هذه الفكرة أيضا لم تكن مبتكرة منه هو شخصيا ففضلا على ما سبق فإن هناك من الفرنسيين أنفسهم وفي أواخر القرن التاسع عشر من سعى في هذا الاتجاه وعلى رأسهم النائبان ميشولان Michelinوكوتي Cotyواللذان طالبا في العام 1887 بضرورة منح الجنسية الفرنسية وبصورة جماعية للجزائريين وجاء بعدهم عدد لا بأس به من الساسة والذين ساروا في هذا الطريق من أمثال ألبان روزي Alban Rosieوجورج ليون George Lyonوما عجز هؤلاء عن تحقيقه تبناه فرحات عباس وحاول إكمال المسيرة ولكنه هو وهم قد اصطدموا بصخرة الكولون والتي أجهضت هذه المشاريع العادلة وهذه المطالب المشروعة في حينها .
كما أن عباس فرحات يتخذ من سياسة ألمانيا في مقاطعتي الألزاسalsace واللورينlorraine نموذجا يمكن تحقيقه في الجزائر أيضا فكما نجحت ألمانيا في ألمنة هاتين المقاطعتين يمكن لفرنسا أيضا فرنسة الجزائر والجزائريين وهذا عن طريق الدمج الكلي لهما فيها خاصة وأنه يري بأن الدين الإسلامي ليس ضد التجنس وليس ضد التعليم الفرنسي المدني التقني وهو هنا يستشهد بالمقدس قرآنا كان أم سنة نبوية شريفة وهو هنا أيضا يعول كثيرا على عنصر الثقافة في تحقيق هذا الهدف وهذا ما نجده في قوله : " لأن ألمانيا بثقافتها قامت بغزو روح الألزاسيين واللوريين عن طريق المدرسة ولغتها ، وذلك إتماما لغزو الأرض ، وبالتالي تمكنت من ضم الأرض والإنسان إليها ، وأصبحا جزءا من إمبراطوريتها بدون تمييز بين جميع سكانها الذين تعتبرهم كلهم ألمان لهم نفس الحقوق والواجبات " وهذا الكرم نقتبسه من رسالة عز الدين معزة فرحات عباس ودوره في الحركة الوطنية ومرحلة الاستقلال .
وما شجع كذلك الرجل على تبنى مثل هذه الأفكار هو أنه قد وجد أصواتا فرنسية عالية ومنددة بسياسة فرنسا الاستعمارية بالجزائر وهي تدعو صراحة إلى ضرورة تغييرها وإلى ضرورة تعليم الجزائريين اللغة الفرنسية بهدف تحقيق الإدماج الكلي للجزائر فبعد إدماج الأرض لا بد من إدماج الشعب ولقد وجد عباس فرحات سندا قويا في هذه الأطروحات وأرضية يقف ويتكأ عليها وهي أطروحات كانت موجودة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر كما مر أعلاه واستمرت في التواجد خلال القرن العشرين وهذا ما نجده في كتاب الجزائر المئوية فصاحبه يدعو الفرنسيين إلى ضرورة الإسراع في : " فتح أبواب المساعدة الطبية الواسعة والمنظمة ، وفتح المدارس في كل مكان ، وخاصة مدارس البنات ، وأن لا نفكر في التأخر ، لنضع برنامجا من أجل تحقيق اندماج كامل للأهالي ، وذلك لبناء جيل المستقبل " . أما مناداته بأن تكون الجزائر إقليما فرنسيا فهي مجرد وسيلة لا غاية وسيلة لغرض تحقيق تحرر الإنسان الجزائري المسلم من القهر والظلم والقوانين الاستثنائية ونحن نقتبس دوما من نفس المرجع المذكور أعلاه كما أن الهدف من سياسة الإدماج عنده واضحة ففرحات عباس مؤمن بالمبادئ والقيم الثقافية التي حملتها الثورة الفرنسية في العام 1789 م وسعى إلى إيجاد وطن جزائري داخل الكيان الفرنسي ، فكانت تنازعه ثنائية فكرية ، أهلي مسلم وحداثي جمهوري ، فبقدر ما كان يصبوا إلى الاندماج في الإطار الفرنسي ، كان حرصه شديد على التعلق بوسطه الفلاحي ويحمل همومه ويتألم لحرمانه من أبسط الحقوق وهذا الكلام نقتبسه من عباس محمد الصغیر فرحات عباس من الجزائر الفرنسية إلى الجزائر الجزائرية وهذا لكونه قد كان يدرك مدى حاجته لقوة الجماهير الشعبية كما يدرك أنه بحاجة ماسة إلى الشعب الجزائري وهذا لتحقيق أهدافه والمتمثلة في القضاء على النظام الاستعماري وهذا ما نجده في قوله والمقتبس من نفس المرجع : " إن إلحاق الهزيمة بنظام قوي مثل النظام الكولونيالي وقصد تحويله وتحطيمه يتطلب الأمر أكثر من تجمع للمنتخبين ، يجب توفير حركة شعبية تتكون من كل الجماهير ، وهذا لن يتحقق إلا في إطار حزب " كما أنه قد كان مرتبطا وبصورة أسطورية بشعبه لدرجة أن الواحد منا يحتار في أية مقولة له سيستشهد بها وهذا لتعدد وكثرة كتاباته حول ما يشعر به تجاهه فها هو في إحداها يقول : "إنني من سلالة فلاحية ... وقضيت طفولتي كلها وسط مجتمع وضيع وساذج وكريم فتعذرت علي مفارقته وإن تعاطفي مع أولئك الفلاحين ليس عاطفيا فحسب بل هو حيويا يجري في دمي وعروقي " وهذا الكلام نجده في كتابه ليل الاستعمار ولأجل كل ما سبق فعباس فرحات لم يحدث أبدا قطيعة مع شعبه ولم يكن يتبرأ منه أو يزدريه أو أنه يزدري ويحتقر حضارته وثقافته فها هو يخبرنا بأن الجزائريين وتحت ضغط الحاجة أو لملائمة اللباس الأوروبي لعملهم فإنهم يرتدونه ولكنهم يبقون دوما على غطاء الرأس المحلي كنوع من تأييد جنسهم وعقيدتهم وعباس فرحات ذاته كان يرتدي غطاء الرأس وهو دليل كاف على أن الرجل كان وطنيا ومن الدرجة الأولى ولم يتخل في يوم من الأيام عن عقيدته ولا عن حضارة وهوية شعبه . كما يخبرنا أيضا في كتابه الشباب الجزائري بأنه حتى وإن كانت الأغلبية تعامل كالبهائم فإن ذالك لم يجعلها تستسلم وهو جزء من تلك الأغلبية إذن فالرجل قد كان شجاعا وناضل لأجل أن يسترجع حقوق شعبه وفق ما يراه صالحا وممكنا من مشاريع .
وعباس فرحات وفي كتاباته يخبرنا بأسباب نضاله لأجل سياسة الإدماج فهو يقول في كتابه ليل الاستعمار ما يلي : " لنفهم لماذا جيلي ، والذي سبقه ركضوا وراء فرنسا الجمهورية الليبرالية ، ضد فرنسا المحتلة الظالمة اعتقدنا بأننا نحتاج فقط لإنارة الأولى لتضع حدا للمآسي التي خلقتها فرنسا المحتلة " نعم لقد كان يعتقد بأنه وبواسطة القوانين الفرنسية والتعليم والمدرسة يمكن خلق جزائر جديدة . كما كان يضن بأن ما سبق ذكره كفيل بالقضاء على طرح الجنس الأعلى والجنس الأدنى وعلى الإقطاعية وأن يحقق التطور والرقي لشعبه ويحقق المساواة بين جميع سكان الجزائر بغض النظر عن جنسهم ودينهم ولغتهم وعباس فرحات هو واحد من النخب الجزائرية والتي كانت وكما يخبرنا محفوظ قداش وذلك خلال العشرينات من القرن المنصرم : " تفكر داخل الإطار الفرنسي ، بما في ذلك فيدرالية المنتخبين ، وجمعية العلماء المسلمين. وقد عرفت هذه النخب بولائها ورغبتها في التطور ضمن القوانين الفرنسية فكانوا يسعون لتمتين العلاقات بالأوروبيين من أجل خير الأمة. "
ومن ناحية أخرى يخبرنا صاحب هذا المقال عن أسباب توجهه صوب الأفكار الحرة الفرنسية كوسيلة للنضال ومرد هذا إلى أن الكولون قد اتخذوا من العنصرية مذهبا ومن الظلم دينا لهم جميعا وفي مقابل هذا لا يوجد بيد الجزائريين أية وسيلة لردعهم وهذا خاصة من بعد فشل المقاومات المسلحة وغطرسة النظام الاستعماري ومصادرته لكل الحقوق الإنسانية والمشروعة للشعب الجزائري فما كان منه أي عباس فرحات سوى النضال وبأدوات فرنسية علها تمكنه من استرداد حقوق شعبه المسلوبة وهذا عبر تنبيه فرنسا الحرة فرنسا الجمهورية إلى جرائم فرنسا الاستعمارية . وكذلك لإيمانه بأن التعليم الفرنسي يحمل في طياته بذور الحرية وأن التعاون بين الشباب الجزائري وبين أحرار فرنسا سيؤدي إلى ديمقراطية حقيقية وسوف يقضي على أكذوبة الجنس الأعلى والجنس الأسفل وهذا كله سيؤدي إلى ميلاد الجزائر الجديدة جزائر لكل الأجناس والأعراق تسير على خطى الديمقراطية الفرنسية ومتحدة معها . كما أن الرجل كان يعول كثيرا على نضال البروليتاريا prolétariat في فرنسا فإذا ما استطاعت هذه الأخيرة نيل حقوقها فسوف ينال الشعب الجزائري تلك الحقوق وبصورة آلية وهذا هو المشروع الذي نذر له فرحات عباس نفسه قبل العام 1956 .
ويمكن القول بأن برامج عباس فرحات قد كانت تتغذي من المدرسة الفرنسية فهو حين يطالب بفتح باب التعليم أمام الجزائريين فهو يتماهي ويستكمل مشروع جانمير Janumeirهذا الفرنسي الذي كان يؤمن بضرورة تعليم الجزائريين ولذلك فتح باب التعليم الموجه لهم ولئن كانت الظروف في بداية القرن العشرين لم تسمح لهذا المشروع بأن يستمر في الزمن ويستكمل مسيرته فإن عباس فرحات يري كذلك في التعليم الأوروبي للشباب المسلم مخرجا للجزائريين من التخلف هذا التخلف الذي هو نفي استقلال الشعوب ومقبرة حرياتها كما يقول عباس فرحات ولذا وجب تعليم الجزائريين خاصة وأن هؤلاء قد اقتنعوا بالفرق الموجود بين التعليم المدني الفرنسي وبين التعليم الذي يقدمه المبشرون وبالتالي فالرجل يري في التعليم خير وسيلة لاسترداد ما سلب من الجزائريين من حرية واستقلال وطوق نجاة لخروجهم من حالي البؤس والشقاء اللتين نفي فيهما الجزائريين وبالقوة كما أن التعليم عند الرجل يمنع الاستبداد ويحرر الإنسان منه وبعد تحرير الإنسان تأتي مرحلة إنشاء المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والتي بدورها ستنهض بالإنسان وتحقق له إنسانيته بعيدا عن وضعية البهائم التي أنزل المستعمر الفرد الجزائري إليها . وفكرة تعليم الجزائريين والتي تبناها فرحات عباس نجد أصولها وجذورها في مشروع جول فيري لتعليم الأهالي وهذا حينما أقر إجبارية التعليم لكل سكان الجزائر إلا أن الكولون استثنوا الجزائريين من هذا المشروع وصادروه لحساب أبنائهم وأبناء عملائهم من الجزائريين .
وقد يتساءل بعضنا ولما عباس فرحات قد توجه صوب هذه الأساليب السلمية بغية القضاء على النظام الاستعماري الجواب نجده فيما يخبرنا به هو نفسه في كتابه ليل الاستعمار وهذا حينما يقول بأن الاحتلال قد عم كل القطر الجزائري وهذا عندما بدأ الرجل نضاله السياسي واستطاع أن يقضي على كل المقاومات المسلحة : " ووضع الجزائريين كان مأساويا ، لم تكن لهم القوة للدفاع عن أنفسهم واسترداد حقوقهم ، كانوا يتألمون ، ويموتون تحت عبء الاحتلال " وعليه فما دامت المقاومة العسكرية مستحيلة لاستحالة هزيمة هذا النظام عسكريا نظرا لتغوله وأمام حالة الجزائريين المستعجلة فلم يكن أمام الرجل من خيار سوى محاربة العدو وبأدواته ذاتها ريثما تتبدل الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية لصالح المغلوبين .
وعباس فرحات يطلق على نضاله هذا الثورة بالقانون وهي ثورة فاشلة لأن الاستعمار لا يفهم سوى لغة القوة وما زاد فرحات عباس إيمانا بما سماه الثورة بالقانون هو الوضع المخزي والمحرج للكولون هؤلاء الذين تعاونوا مع حكومة فيشي الموالية للألمان مما جعل عباس فرحات يعتقد بأنهم في وضع ضعيف خاصة وأن الحكم في فرنسا الأم قد آل إلى أعدائهم أي لمن قاوموا الاحتلال النازي لفرنسا وعليه فهو قد كان يعتقد بأن فرنسا الحرة ومعها الشعب الفرنسي والذي قد ذاق ويلات الاحتلال النازي لن يخذلاه وسوف يلبيان للشعب الجزائري مطالبه العادلة ولكن أما علم فرحات عباس بأن فرنسا الحرة والتي راهن عليها هي نفسها حكومة ديغول وهذا الأخير يعتبر موقفه من الجزائر هو عين الموقف للحكومات الفرنسية المتعاقبة وهذا منذ 1830 وإلى غاية نهاية ح ع 2 ومعه السواد الأعظم من الشعب الفرنسي والثورة بالقانون تلك كانت ستؤدي بالجزائر إلى وضعية جديدة مفادها أن : " لا إدماجا لا سيدا جديدا ولا انفصالا بل غايتنا هي إبراز شعب فتي يتكون تكوينا ديمقراطيا واجتماعيا ... غايتنا هي إنشاء دولة فتية تقود خطاها الديمقراطية الفرنسية " وبهذا فالجزائر ستتحرر من نظام السيطرة الاستعمارية وتندمج في الديمقراطية العالمية . ونحن هنا لم نأت بشيء من عندنا أو قمنا باستنتاجه وإنما كلامنا السابق هو ما صرح به الرجل في كتابه ليل الاستعمار ودوما كانت مشاريعه تتكسر فوق صخرة الكولون الرافضون لأي إصلاح لصالح الجزائريين لكونهم لا يرون أي مستقبل لفرنسا وللجزائر إلا في ظل النظام الاستعماري حيث أنه من الممكن أن نبرئ مريض بالسرطان ولكنه من المستحيل أن نبرئ المستعمرين من داء الاستعمار وهذا كما جاء في كتابه ليل الاستعمار دوما .
تعليقات
إرسال تعليق